الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة فيلم "أبو ليلى" للمخرج الجزائري أمين سيدي بومدين: القبول بعدم القبول بالحسم

نشر في  23 ماي 2019  (11:53)

بقلم الناقد طاهر الشيخاوي- مراسلنا من مهرجان كان

متابعو الشأن السينمائي في الجزائر يعرفون أمين سيدي بومدين صاحب أفلام قصيرة متميزة ومتحصلة على العديد من الجوائز كـ"غدا الجزائر" و"الجزيرة" و"سريال كلر". والآن وقد ساهم في مهرجان كان (قسم أسبوع النقاد) بشريطه الطويل "أبو ليلى"، لا بد من إضافة إسمه إلى مجموعة الشباب الجزائريين المجددين كحسن فرحاني ولمين عمار خوجة وكريم موساوي وطارق سامي وجمال كركار وعبد الغني راوي وغيرهم.  

رسم أيمن سيدي بومدين معالم عالمه منذ بداياته، فارتبط اهتمامه بقضايا بلاده الراهنة بالبحث عن أشكال تعبيرية جديدة، بل من الواضح (وشريطه الأخير يؤكد ذلك) أن تناوله لهذه القضايا لا يمكن أن يمرّ إلا عبر نظرة أخرى تتجاوز إعادة انتاج الواقع إعادة سمعية بصرية، وهو يلتقي في ذلك مع جيل كامل مهوس بالصورة.

يمكن اختزال موضوع الشريط في كلمتين : شابان ينطلقان من الشمال إلى الجنوب (مسلك يمكن أن يقال فيه الكثير منذ طارق تقية) بحثا عن إرهابي. هذا هو الإطار العام الذي سيفتح المجال للإشتغال على الرود موفي والثريلر والأمر بيّن في الفيلم، وهو محركه الأساسي من  الناحية الشكلية.

شخصيتان في سيارة تنطلقان في رحلة تجوبان فضاء الجزائر في اتجاه الصحراء. مبدأ الفيلم الأساسي هو أنّ المسار يكتسي أكثر من منحى، فيضاف إلى التدرج الدرامي (التقاء شخصيات جديدة في فضاءات جديدة وسياقات جديدة)  مستوى آخر وهو التنقل عبر فضاءات مغايرة في طبيعتها، طبقات من الواقع والخيال والحلم والهلاوس (والطلامس ؟) وإلى ذلك يضاف مستوى ثالث وهو عبور لافت مثير لأجناس سينمائية متنوعة.

هنا بالذات تكمن أهميّة الشريط : تتضاعف المستويات وتتظافر مُكسِّرة الحدود المرسومة بين الواقع والخيال وتكمن الحكمة (والصعوبة في ذات الوقت) في كيفية الربط بينها. قد يُـفهم هذا المزج الغريب، إذا رأينا الأشياء من منظور تقليدي جامد، على أنه ضرب من الهذيان واللخبطة خصوصا في أوساط الحرفيين والأمر لا يستثني النقاد بما فيهم دعاة التحديث ولكن تلك قضية أخرى.

هما شخصياتان اذن لطفي وس. (آه غريب هذا الإسم) مختلفتان في تصورهما للواقع. فلطفي يعتبر عاديا نسبيا وسيكون مقياسنا في تغير التمثلات، لذلك يبدأ الشريط به أما س. فهو من سيبتعد بنا عن الواقع باعتباره مختلا إلى حد ما وهو في البدء نائم أو غائب، فكلما أفاق من سباته زاد انحيازنا على العالم ودخلنا في أمصار أخرى عنيفة وغامضة وهنا يأخذنا الشريط في طريق كلها مخاطر ومخاطرة بالمعنى الأول والثاني.

تختلط السبل إلى حدّ القبول بعدم القبول بالحسم (ومع الأسف قد لا يذهب الفيلم بعيدا أحيانا في هذا الإتجاه) وهو (أي القبول بعدم القبول بالحسم) أمر محير ومزعج للنفوس المطمئنة وأرقى درجة في الفيلم وأخطرها أيديولوجيا، لأن العنف الذي عرفته الجزائر (الأحداث تدور سنة 1994) يراد لنا أن نفهمه على أنه مواصلة منطقية للواقع، حتمية بالنسبة للجميع، ضرورية بالنسبة للبعض وغير مقبولة أخلاقيا بالنسبة للآخرين ولكن طريقة تناولها هنا أي صياغتها في قوالب سينمائية مستعارة من أشكال سينمائية كالواسترن والثريلر وأفلام الرعب هي اقتراح مهم جدّا (وليس اعتباطيا أن يعتمد عدد من المخرجين الشبان الجزائريين هذه الأشكال في أعمالهم) فصياغتها في قوالب مستعارة من التراث السينمائي يحررنا من التمثلات المفروضة علينا من هنا ومن هنالك، شرقا وغربا.

يمكن للمشاهد ان يعتبر أن الشريط طويل وقد يلتقي في ذلك مع المنتجين والفننيين الذين لهم مقاييس محددة ولكن مسألة تمطيط الزمن تطرح بشدة هنا في سياق انتاج وتوزيع لا يزال خارج زمن المعقولية.

شريطٌ قادم من بلد يشكو ضعفا فادحا في بنية المؤسسات السينمائية، يـُعرض في أهم مهرجان عالمي، في بلد لا مثيل له في تقنين السينما ومأسسته بما في ذلك من حسنات وسيئات.